فصل: شُبْهَة أُخْرَى لَهُم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التلخيص في أصول الفقه



.فصل: الْأَخْذ بِالْأَقَلِّ:

وَمِمَّا يتَعَلَّق بِمَا نَحن فِيهِ، الْأَخْذ بِالْأَقَلِّ.
وتصويره: أَن من صَار إِلَى أَن دِيَة الْيَهُودِيّ ثلث دِيَة الْمُسلم، فَلَو طُولِبَ بِإِقَامَة الدّلَالَة عَلَيْهِ، فَقَالَ: هَذَا الْقدر مُتَّفق عَلَيْهِ، وَهُوَ الْأَقَل، وَالْبَاقِي مُخْتَلف فِيهِ، فَهَل يكون ذَلِك دلَالَة؟
قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: حكى عَن الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ، التَّمَسُّك بِمثل ذَلِك.
ثمَّ قَالَ: وَالظَّن بِهِ خلاف ذَلِك، وَلَعَلَّ النَّاقِل عَنهُ زل فِي نقل كَلَامه.
فَالَّذِي نرتضي من الْمذَاهب، أَن يُقَال: أما الْأَقَل فثابت إِجْمَاعًا.
وَأما نفي مَا عداهُ، فموقوف على الدَّلِيل، فَإِن قَامَت دلَالَة على نفي مَا سواهُ، انْتَفَى، وَإِن قَامَت دلَالَة على نفي الْوُجُوب....
وَأما أَن يُقَال: لَيْسَ الْإِجْمَاع على ثلث الدِّيَة يتَضَمَّن نفي الزَّائِد عَلَيْهِ، فَلَا وَجه لَهُ، وَلَا سَبِيل إِلَيْهِ، فَإِن الْإِجْمَاع على الشَّيْء لَا يدل على نفي سواهُ.
ويتصل بِهَذِهِ الْجُمْلَة، أَن الْإِجْمَاع على الْأَقَل إِذا ثَبت وتفحص الْمُجْتَهد عَن الْأَدِلَّة، فَلم يعثر على دلَالَة يَقْتَضِي إِيجَابا، فِيمَا وَرَاء الْأَقَل فيسوغ لَهُ التَّمَسُّك بِحكم الْعقل فِي بَرَاءَة الذِّمَّة، على التَّرْتِيب الَّذِي بَعَثْنَاهُ لَك فِي صدر الْبَاب، فَهَذَا مَقْصُود الْبَاب وسره فتدبره.
وَاعْلَم أَن الْمَقْصُود لَا يثبت إِلَّا بطريقتين:
إِحْدَاهمَا: انتصاب دلَالَة مقتضية حكما.
وَالْأُخْرَى: انْتِفَاء الْأَدِلَّة الْمُقْتَضِيَة شغل الذِّمَّة، فَإِذا انْتَفَت استصحب حكم الْعقل.

.فصل: تَحْقِيق القَوْل فِي أَن الْيَقِين لَا يتْرك بِالشَّكِّ:

قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: قد بنى الْفُقَهَاء جملا من مسائلهم على أَن الْيَقِين لَا يتْرك بِالشَّكِّ. وَهَذَا مِمَّا يجب تَحْصِيل القَوْل فِيهِ.
فَنَقُول: الْيَقِين إِذا تحقق، لم يتَصَوَّر مَعَه شكّ، فضلا عَن ترك الْيَقِين بِهِ إِذا تَيَقّن! وَالشَّكّ يُنَافِيهِ .
فَلَيْسَ الْمَعْنى بقول الْفُقَهَاء " لَا يتْرك الْيَقِين بِالشَّكِّ " الْمُتَيَقن الْمَقْطُوع بِهِ. وَلَكِن عنوا بذلك، أَن مَا سبق استيقانه، ثمَّ انْقَضى الْيَقِين، وَلم يستيقن ارْتِفَاع مَا استيقناه أَولا فطرق الشَّك لَا يتَضَمَّن ارْتِفَاع الحكم مِمَّا استيقناه أَولا وَهَذَا نَحْو من يتَطَهَّر يَقِينا، ثمَّ يشك بعد ذَلِك فِي انْتِقَاض الطَّهَارَة، فَلَا يرْتَفع حكم مَا سبق من الطَّهَارَة المستيقنة، بِالْحَدَثِ الْمَشْكُوك فِيهِ.
ثمَّ اعْلَم، أَن هَذَا مَا لَا يطرد القَوْل فِيهِ، فقد تقوم الدّلَالَة بترك حكم مَا سبق مِنْهُنَّ عِنْد طروء الشَّك والالتباس، وَذَلِكَ نَحْو أَن يتَزَوَّج الرجل نسْوَة، ثمَّ يُطلق وَاحِدَة مِنْهُنَّ، لَا بِعَينهَا، فَلَا يجوز لَهُ أَن يقرب وَاحِدَة مِنْهُنَّ، حَتَّى تبين الْمُطلقَة مِنْهُنَّ، وَإِن كَانَت كل وَاحِدَة، قد سبق فِيهَا استيقان النِّكَاح، وَلم نقطع بِطَلَاق .
وَكَذَلِكَ إِذا كَانَ مَعَ الرجل آنِية، فِيهَا مَاء طَاهِر، فاختلطت تِلْكَ الْآنِية بأواني، بَعْضهَا طَاهِرَة وَبَعضهَا نَجِسَة، وكل آنِية سبق فِيهَا استيقان الطَّهَارَة، وَإِنَّمَا النَّجَاسَة طارئة عَلَيْهَا، وَمَعَ ذَلِك لَا يجوز التَّمَسُّك بِحكم مَا سبق من الْيَقِين.
فَيخرج لَك عَمَّا قُلْنَاهُ: أَن اسْتِصْحَاب حكم الْيَقِين مِمَّا يَنْقَسِم حكم الشَّرْع فِيهِ: وَلَا يجوز التَّمَسُّك بِهِ فِي منَازِل الْأَدِلَّة، وَأَن استحصابه نَازل منزلَة اسْتِصْحَاب الْإِجْمَاع، وَمَا قدمنَا القَوْل فِيهِ أَولا.

.القَوْل فِي أَن النَّافِي هَل تتَوَجَّه عَلَيْهِ الطّلبَة بِإِقَامَة الدّلَالَة:

مَا صَار إِلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ من الْأُصُولِيِّينَ، أَن من نفى حكما عقلياً أَو شَرْعِيًّا. فَهُوَ فِي توجه الطّلبَة عَلَيْهِ بِإِقَامَة الدَّلِيل، نَازل منزلَة الْمُثبت.
وَذَهَبت شرذمة من النَّاس إِلَى أَن من نفى حكما شَرْعِيًّا أَو عقلياً، فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِقَامَة الدّلَالَة.
وَالدَّلِيل على بطلَان ذَلِك، أَن نقُول: من نفى حكما، لم تخل حَالَته فِيمَا نفى، إِمَّا أَن يكون جَاهِلا بِمَا نَفَاهُ، أَو مشككا، أَو عَالما بِهِ.
فَإِن كَانَ جَاهِلا بِمَا نَفَاهُ أَو مستريباً فِيهِ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِقَامَة دلَالَة فِي إِثْبَات الريب وَالشَّكّ. إِذْ لَا تدل الْأَدِلَّة على الاسترابة، وَقد قدمنَا فِي صدر الْكتاب بِأَن الشُّبْهَة لَا تَتَضَمَّن الْإِفْضَاء إِلَى الْجَهْل وَالشَّكّ وغلبات الظنون وَلَكِن الْأَدِلَّة هِيَ الَّتِي تُؤدِّي إِلَى الْعلم بمدلولاتها.
فَهَذَا لَو زعم النَّافِي أَنه جَاهِل أَو مستريب.
وَإِن زعم أَنه عَالم بِمَا نَفَاهُ، فالنفي مِمَّا يعلم كالإثبات، فَيُقَال لَهُ: للْعلم بالمعلوم طَرِيقَانِ: أَحدهمَا: الضَّرُورَة، وَالْآخر: الِاسْتِدْلَال.
فَإِن كنت تعلم نفي مَا نفيته ضَرُورَة، فَيجب أَن تشاركه فِيهِ، وَلَو سَاغَ ادِّعَاء، الضَّرُورَة فِي نفي المنفيات، سَاغَ ادعاؤها فِي إِثْبَات المثبتات. فتتعارض الْأَقْوَال، وَيسْقط الْجِدَال.
فَإذْ بَطل ادِّعَاء الضَّرُورَة فِي غير مَوْضِعه، فَلَا طَرِيق للْعلم بِالنَّفْيِ، إِلَّا الِاسْتِدْلَال، وَهَذَا مَا لَا محيص للخصم عَنهُ.
ثمَّ نقُول: لَو صحت هَذِه الطَّرِيقَة، لصَحَّ أَن يُقَال: إِن من أنكر حدث الْعَالم، أَو جحد الصَّانِع، فَلَا تتَوَجَّه عَلَيْهِ طلبة بِإِقَامَة حجَّة! وَكَذَلِكَ من نفي صِفَات الله تَعَالَى، أَو نفي وجوده من الباطنية، وَفِي هَذَا اجتراء عَظِيم على أصُول الدّين.
ثمَّ نقُول: مَا من إِثْبَات يدل عَلَيْهِ، إِلَّا وَيُمكن أَن يعبر عَنهُ بِالنَّفْيِ توصلاً إِلَى إِسْقَاط الْحجَّاج حَتَّى يُقَال: من سُئِلَ عَن حدث الْعَالم، فَلَا دَلِيل عَلَيْهِ، إِذْ مَقْصُوده نفي الْقدَم، وَهَذَا يطرد لَك فِي مُعظم مسَائِل الْإِثْبَات، فَتبين أَن الْمصير إِلَى هَذَا الْمَذْهَب، خبط وَجَهل من قَائِله بحقائق الْأُصُول.
وَرُبمَا اسْتدلَّ نَاصِر هَذَا الْمَذْهَب، بِأَن قَالَ: إِذا ادّعى رجل مَالا. فالحجة وَالْبَيِّنَة على الْمُدَّعِي، وَلَا حجَّة على الْمُدعى عَلَيْهِ، قَالُوا: وَمَا ذَلِك إِلَّا لِأَن الْمُدعى عَلَيْهِ ناف، وَالْمُدَّعِي مُثبت.
وَهَذَا الَّذِي ذَكرُوهُ، بَاطِل من أوجه: -
أَحدهَا: أَن الْمُدعى عَلَيْهِ قد يكون مثبتاً، وَالْحكم مَعَ ذَلِك كَمَا قَالُوهُ، فَإِن من ادّعى على رجل دَارا فِي يَده، قَالَ: هَذِه الدَّار الَّتِي فِي يدك. لي وَلَيْسَت لَك أَيهَا الْمُدَّعِي، وَقَالَ الْمُدعى عَلَيْهِ: لَا، بل هِيَ لي، وَلَيْسَت لَك أَيهَا الْمُدَّعِي . فقد أثبت كل وَاحِد مِنْهُمَا الْملك لنَفسِهِ، ونفاه عَن صَاحبه، واستويا فِي النَّفْي وَالْإِثْبَات.
ويتخصص الْمُدَّعِي مَعَ ذَلِك، بِإِقَامَة الْبَيِّنَة، دون الْمُدعى عَلَيْهِ.
على أَن كثيرا من الْفُقَهَاء صَارُوا إِلَى أَن يَمِين الْمُدعى عَلَيْهِ، مَعَ الظَّاهِر الَّذِي يُقَوي حَاله، نَازل منزلَة الْبَيِّنَة فِي حَقه، إِذْ الْمُدعى عَلَيْهِ، هُوَ الَّذِي تقوى جنبته، إِمَّا بيد، أَو بِنَفْي، وَالْأَصْل الانتفاء، فَسقط مَا قَالُوهُ من هَذَا الْوَجْه.
وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك: أَن الْمُدعى عَلَيْهِ إِذا أَقَامَ الْبَيِّنَة، وَضعف بهَا جنبة الْمُدعى عَلَيْهِ، فيتصور مِنْهُ إِقَامَة الْبَيِّنَة حِينَئِذٍ، على الِاخْتِلَاف بَين الْعلمَاء فِي بَيِّنَة الْخَارِج والداخل.
على أَنا نقُول: لَيْسَ مَا تمسكتم بِهِ، من قبيل مَا نَحن فِيهِ، وَذَلِكَ أَن إِثْبَات الشَّهَادَة فِي جنبه الْمُدَّعِي مِمَّا يثبت شرعا، وَنحن نجوز تَقْديرا، أَن يرد الشَّرْع بتخصيص الْمُدعى عَلَيْهِ - إِذا اخْتصَّ بِالْيَدِ - بِالْبَيِّنَةِ، دون الْمُدَّعِي.
فَإِذا كُنَّا نجوز كل وَاحِدَة مِنْهَا، فَلَيْسَتْ الشَّهَادَة من قبيل الْحجَج على التَّحْقِيق فَإِنَّهَا لَا تفضى إِلَى الْعلم، وَإِنَّمَا نَحن مَعكُمْ فِيمَن يدعى الْعلم بِنَفْي فَإِن عَلَيْهِ إِقَامَة الدّلَالَة على مَا علمه، إِذا لم يكن مِمَّا يعلم اضطراراً، فَبَطل مَا عولوا عَلَيْهِ من كل وَجه.

.فصل: لَا يُمكن إِثْبَات الْإِجْمَاع بِخَبَر من أَخْبَار الْآحَاد:

ذكر القَاضِي رَضِي الله عَنهُ خلل الْكَلَام فصلا لَا يكَاد يخفي، أَنه قَالَ: من أَرَادَ أَن يثبت الْإِجْمَاع وَيبين أَنه حجَّة قَاطِعَة، بِخَبَر من أَخْبَار الْآحَاد، فَلَا يجد إِلَى ذَلِك طَرِيقا. وَذَلِكَ أَن الْإِجْمَاع إِذا ثَبت، فَهُوَ حجَّة مَقْطُوع بهَا. وَالْخَبَر إِذا نَقله الْوَاحِد لَا يُفْضِي إِلَى الْعلم.
وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك أَن خبر الْوَاحِد لَا يسوغ اتِّبَاعه حجَّة قَاطِعَة مقتضية عملا بمالا يَقْتَضِي الْعلم، وَلَكِن إِنَّمَا يسْتَدلّ على كَون الْخَبَر مقتضياً الْعَمَل بِدلَالَة قَاطِعَة وَإِن لم يكن الْخَبَر فِي نَفسه مقتضيا للْعلم.
وَالْجُمْلَة فِي ذَلِك أَن إِثْبَات الأمارات على الْأَحْكَام لَا يَتَقَرَّر إِلَّا بالأدلة القاطعة وَإِن لم تكن الأمارات فِي أَنْفسهَا قَاطِعَة وَلَا مقتضية علما. وَهَذَا مجمع عَلَيْهِ بَين الْأُصُولِيِّينَ، وسنقرره فِي كتاب التَّقْلِيد، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
فَإِذا كَانَ الَّذِي يُفْضِي إِلَى الْعلم لَا يثبت حجَّة إِلَّا بِدلَالَة قَاطِعَة، فَلِأَن نقُول: لَا يثبت الْإِجْمَاع مَعَ كَونه قَاطعا إِلَّا بِدلَالَة قَاطِعَة، أولى وَأَحْرَى.
وَاعْلَم أَنه قد شَذَّ عَنَّا أَطْرَاف من الْكَلَام فِي أَحْكَام الْإِجْمَاع. كلهَا محَالة على القَوْل فِي وجوب الْعَمَل بقول الصَّحَابِيّ. وَسَيَرِدُ ذَلِك مستقصى إِن شَاءَ الله تَعَالَى.

.كتاب الْقيَاس:

.القَوْل فِي حَقِيقَة الْقيَاس:

قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ أهم مَا نبدأ بِهِ فِي أَحْكَام الْقيَاس، ذكر حَقِيقَة الْقيَاس وَمَعْنَاهُ وَالَّذِي يتَمَيَّز بِهِ عَن غَيره ويتعرف بِهِ فِي نَفسه. فَإِن طرق الِاجْتِهَاد فِي الْأَحْكَام تَنْقَسِم إِلَى ضروب من الِاسْتِدْلَال، يَقُول بهَا منكروا الْقيَاس فِي الشَّرِيعَة، فنحقق الْقيَاس وَحده ليَكُون خوضنا فِي إثْبَاته وَالرَّدّ على من رده، على بَصِيرَة.

.تَعْرِيف القَاضِي للْقِيَاس:

فَالَّذِي اخْتَارَهُ القَاضِي فِي الْقيَاس وَالتَّعْبِير عَنهُ أَن قَالَ: الْقيَاس حمل أحد المعلومين على الآخر، فِي إِيجَاب بعض الْأَحْكَام لَهما، أَو فِي إِسْقَاطه عَنْهُمَا، بِأَمْر جمع بَينهمَا من إِثْبَات صفة وَحكم لَهما، أَو نفي ذَلِك عَنْهُمَا.
فَكل مَا تجمعت فِيهِ هَذِه الْأَوْصَاف فَهُوَ قِيَاس، وَمَا انخرم فِيهِ وصف من هَذِه الْأَوْصَاف، فَلَيْسَ بِقِيَاس.
وَقد كثرت عِبَارَات الْأُصُولِيِّينَ فِي تَحْدِيد الْقيَاس، وَنحن نومئ إِلَى جمهورها إِذا ذكرنَا معنى الْحَد الَّذِي ذكرنَا.

.شرح التَّعْرِيف، مَعَ رد التعاريف الْأُخْرَى للْقِيَاس:

فَأَما قَوْلنَا: هُوَ حمل أحد المعلومين على الآخر، فقد آثرناه واخترناه دون عِبَارَات أُقِيمَت مقَامه. فَإِن من النَّاس من قَالَ: هُوَ حمل شَيْء على شَيْء وَمِنْهُم من قَالَ هُوَ حمل الشَّيْء على شبيهه. وَمِنْهُم من قَالَ هُوَ حمل الْفَرْع على أَصله.
وكل هَذِه الْعبارَات مدخولة فِي شَرط الْحُدُود، فَإِن من شَرطهَا أَن تكون جَامِعَة لأقسام، لَا يشذ عَنْهَا شَيْء مِنْهَا.
وَمن أَقسَام الْقيَاس اعْتِبَار مَعْدُوم بمعدوم وَحمل مُنْتَفٍ على مُنْتَفٍ، كَمَا أَن من أقسامه حمل مَوْجُود على مَوْجُود. وَاسم الشَّيْء يتخصص بالموجود على أصُول أهل الْحق.
فَإِذا قيل فِي حد الْقيَاس هُوَ حمل مَوْجُود على مَوْجُود، كَانَ ذَلِك ضربا من التَّخْصِيص وَكَذَلِكَ إِذا قيل: حمل شَيْء على شَيْء.
وَكَذَلِكَ وَجه الدخل فِي قَول من قَالَ: هُوَ حمل الشَّيْء على شبيهه، فَإِن الِاشْتِبَاه إِنَّمَا يتَحَقَّق بَين موجودين، وَلَا يتَصَوَّر أَن شابه مَعْدُوما مَعْدُوم، وَإِن كَانَ حمل الْمَعْدُوم من ضروب الْقيَاس.
وَكَذَلِكَ الْفَرْع وَالْأَصْل، فَإِنَّهُمَا اسمان خاصان، وَلَا يطلقان إِلَّا على موجودين مستدعياً فِي إطلاقهما الْوُجُود.
وَالْأولَى مَا قدمْنَاهُ عَن ذكر الْمَعْلُوم. فَإِن ذكر الْمَعْلُوم ينْطَلق على الْمَعْلُوم انطلاقه على الْمَوْجُود.
فَأَما قَوْلنَا فِي إِيجَاب بعض الْأَحْكَام لَهما أَو فِي إِسْقَاطه عَنْهُمَا، فَإِن مَا رمنا بِهَذِهِ الْجُمْلَة شيآن اثْنَان.
أَحدهمَا: أَن الْجمع بَين شَيْئَيْنِ من غير إِيجَاب حكم لَهما أَو نفي حكم عَنْهُمَا لَا يكون قِيَاسا وَذَلِكَ نَحْو قَول الْقَائِل: المَاء وَالْخمر مائعان، مَعَ الِاقْتِصَار على هَذَا الْقدر. وَأَمْثَاله لَا يعد قِيَاسا. فَإِن قَائِله لم يُوجب لَهما فِي كَونهمَا مائعين حكما وَلم ينف عَنْهُمَا حكما.
والمقصد الآخر أَنا لم نخصص قَوْلنَا بِإِثْبَات الحكم، بل جَمعنَا بَين النَّفْي وَالْإِثْبَات، فَإِن من الأقيسة مَا يتَضَمَّن نفيا كَمَا أَن مِنْهُمَا مَا يتَضَمَّن إِثْبَاتًا.
وَمن الحادين من يقْتَصر فِي حَده على الْإِثْبَات فَيَقُول: هُوَ حمل الشَّيْء على شبيهه فِي إِثْبَات حكم لَهما. ويقتصر على ذَلِك، وَفِيه إِخْرَاج بعض الْمَحْدُود عَن قَضِيَّة الْحَد.
وَأما قَوْلنَا: بِأَمْر جمع بَينهمَا فقد اخترنا هَذِه الْعبارَة دون عِبَارَات أطلقها كثير من الْأُصُولِيِّينَ فِي هَذِه الْمنزلَة.
وَمِنْهَا أَن قَالُوا: بِأَمْر يُوجب الْجمع بَينهمَا .
وَمِنْهُم من قَالَ: بِأَمْر يتَضَمَّن الْجمع بَينهمَا أَو يَقْتَضِي الْجمع بَينهمَا وكل عبارَة من هَذِه الْعبارَات مدخولة.
وَذَلِكَ أَنَّك قلت: بِأَمْر يُوجب الْجمع بَينهمَا، اقْتضى ذَلِك التَّعْبِير عَن الْقيَاس الصَّحِيح الَّذِي اجْتمع فِيهِ الْفَرْع وَالْأَصْل فِي أَمر يُوجب اجتماعها.
وَشرط الْحَد - إِذا أطلقته - أَن ينطوي على الْفَاسِد حَقِيقَة كَمَا ينْطَلق على الصَّحِيح. فَلَا معنى لتخصيص الصَّحِيح بِالْحَدِّ، عِنْد الْمُطَالبَة بتحديد الْقيَاس الْمُطلق، وَهَذَا كَمَا إِذا سئلنا عَن حد النّظر لم نخصص فِي الْحَد النّظر الصَّحِيح عَن الْفَاسِد من النّظر.
فَإِذا قُلْنَا: لأمر جمع بَينهمَا فيهمَا وَلم نتعرض لإِيجَاب واقتضاء بِالْحَدِّ - كَمَا ذكره آخَرُونَ - كُنَّا قَاصِدين إِلَى استغراق أَنْوَاع الْقيَاس بِالْحَدِّ.
فَلَو قَالَ قَائِل: لَا ينْطَلق اسْم الْقيَاس إِلَّا على الصَّحِيح، كَانَ متحكماً، لَا يكترث بقوله. فَإنَّا نعلم أَن اسْم الْقيَاس ينْطَلق عَلَيْهِمَا جَمِيعًا فَيُقَال لَهُ: هَذَا قِيَاس فَاسد وَهَذَا صَحِيح. فَإِن انْدَفَعُوا فِي تثبيت مَا قَالُوهُ فِي الاستشهاد بمسائل من الْفُرُوع، نَحْو قَول الْقَائِل "وَالله لَا أُصَلِّي " ثمَّ عقد صَلَاة فَاسِدَة، فَلَا يَحْنَث فِي يَمِينه، فَهَذَا ضرب من الهذيان.
فَإِن الإطلاقات واللغات لَا تثبت بآحاد الْمسَائِل فِي الشَّرِيعَة، وَنحن نعلم قطعا فِي حَقِيقَة اللُّغَة أَن اسْم الْقيَاس يتَنَاوَل الَّذِي يحكم بِصِحَّتِهِ، كَمَا يتَنَاوَل الَّذِي يحكم بفساده. فَمَا يُغني خصومنا التَّمَسُّك بآحاد الْمسَائِل.
فقد ذكرنَا إِذا جملا من الْعبارَات الْمَذْكُورَة فِي حد الْقيَاس فِي خلل الْكَلَام، وَبينا اختلالها.

.ذكر بعض التعاريف الْأُخْرَى للْقِيَاس، وإبطالها:

وَهَا نَحن نذْكر عِبَارَات ذكرهَا آخَرُونَ فِي تَحْدِيد الْقيَاس.
فمما قَالُوهُ: أَن الْقيَاس هُوَ إِصَابَة الْحق، إِذا وَقع عَن نظر وَهَذَا غير مُسْتَقِيم من أوجه:
أَحدهَا: أَن إِصَابَة الْحق هِيَ الْعلم بِالْحَقِّ، فَكَانَ محصول مَا قَالُوهُ تَسْمِيَة الْعلم الْوَاقِع عَن النّظر قِيَاسا، وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَيْهِ.
فَإِن النّظر الْمُؤَدِّي إِلَى الْعلم أولى بِهَذَا الِاسْم من الْعلم. وَهَذَا كَمَا أَن قَائِلا لوحد الدَّلِيل الْمُؤَدِّي إِلَى الْعلم بالمدلول، كَانَ مخطئا. فَكَذَلِك سَبِيل مَا نَحن فِيهِ.
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن الْعلم بالشَّيْء إِذا وَقع ضَرُورَة فَهُوَ مجانس للْعلم بِهِ إِذا وَقع اسْتِدْلَالا، وَمن حكم المتماثلين أَن يستويا فِي الْأَوْصَاف الْجَائِزَة والواجبة والأوصاف المستحيلة، وَلَا يَنْبَغِي فِي حكم الْحَد أَن يشْتَمل على الشَّيْء وينفي مثله.
وَالْوَجْه الآخر أَن الْقيَاس عبارَة عَن اعْتِبَار الْمَعْلُوم بالمعلوم وَالْجمع بَينهمَا. وَالنَّظَر إِذا أطلق مَعَ إِصَابَة الْحق، فَلَا يتَضَمَّن ذَلِك.
فَإِن من أَقسَام النّظر مَا لَا ينطوي على تَمْثِيل وتشبيه، وَحمل مَعْلُوم على مَعْلُوم.
وَمن النَّاس من حد الْقيَاس، فَقَالَ: هُوَ اسْتِخْرَاج الْحق من الْبَاطِل. وَهَذَا هُوَ شَيْء لَا يداني مقصدنا فِي حد الْقيَاس، فَإِن الْقَائِل بذلك إِن عَنى بالاستخراج العثور على الْحق فَهُوَ بِعَيْنِه الْكَلَام بِالَّذِي فَرغْنَا عَنهُ آنِفا. وَفِيه ضرب آخر من الْخلَل، وَهُوَ أَن من عثر على الْحق من النُّصُوص، فَلَا يُسمى قائساً وَإِن تحقق العثور على الْحق واستخراجه، وكل مَا قدمْنَاهُ من وَجه الرَّد على القَوْل الَّذِي قبيل ذَلِك فَهُوَ رد على ذَلِك.
وَمن النَّاس من قَالَ: الْقيَاس هُوَ الِاجْتِهَاد فِي طلب الحكم.
وَهَذَا مَدْخُول أَيْضا، وَذَلِكَ أَن من عنت لَهُ حَادِثَة، فابتدأ فِي طلب شَاهد...
... وَالِاسْتِدْلَال بِالشَّاهِدِ على الْغَائِب، وَهَذِه الْعبارَة غير مرضية أَيْضا فَإِن الشَّاهِد وَالْغَائِب وَإِن كَانَا من عِبَارَات الْمُتَكَلِّمين فِي بعض الْمنَازل فلسنا نستحبهما فِي منَازِل الْحُدُود لانطوائها على الْمجَاز والتوسع والإجمال، مَعَ أَن الْمَقْصُود من التَّحْدِيد الْكَشْف وَالْبَيَان. فَلَا يَنْبَغِي أَن يكون الْحَد أغمض من الْمَحْدُود. على أَن الشَّاهِد يُنبئ عَمَّا يُشَاهِدهُ. وَقد ذكرنَا أَن الْقيَاس لَا يتخصص بِشَيْء من ذَلِك.
وَفِي الْعبارَة اختلال من وَجه، وَهُوَ: إِذا قيل: الْقيَاس هُوَ الِاسْتِدْلَال بِالشَّاهِدِ على الْغَائِب، فينبئ ظَاهر ذَلِك عَن اعْتِبَار كل غَائِب بِشَاهِد، وَلَيْسَ من الْقيَاس اعْتِبَار كل غَائِب بِشَاهِد. على مَا نفصل القَوْل فِيهِ.
فَهَذَا جُمْهُور عِبَارَات الإسلاميين فِي تَحْدِيد الْقيَاس وَمَعْنَاهَا.

.ذكر مزاعم الفلاسفة والمناطقة فِي تَحْدِيد الْقيَاس، وتفنيدها:

وَقد زعمت الفلاسفة أَن الْقيَاس قرينتان مقدمتان ونتيجة.
ومثلوا ذَلِك بِأَن قَالُوا: إِذا قَالَ: الْقيَاس، كل حَيّ قَادر فَهَذِهِ مُقَدّمَة.
فَإِذا قَالَ بعْدهَا: وكل قَادر فَاعل، فَهَذِهِ مُقَدّمَة أُخْرَى. وَإِذا قرن بَينهمَا فهما قرينتان مقدمتان. ونتيجتهما أَنه إِذا كَانَ كل حَيّ قَادِرًا وكل قَادر فَاعل فَكل حَيّ فَاعل. وَهَذَا مَا أطلقهُ الفلسفيون والمنطقيون.
ثمَّ قَالُوا: وتتحقق المقدمتان والنتيجة فِي تثبيت وَنفي كَمَا تحقق فِي إِثْبَات.
فَيُقَال لهَؤُلَاء: الْقيَاس كلمة عَرَبِيَّة، وَإِذا سئلنا عَن تحديده لم نجد بدا من تحديده على قَضِيَّة اللُّغَة وَمُوجب الْعَرَبيَّة. وَمَا ذكرتموه خَارج عَن قَضِيَّة اللُّغَة. فَإِن الْقيَاس يُنبئ عَن تَمْثِيل بَين شَيْئَيْنِ أَو حمل بَين معلومين، وَهَذَا مَا لَا يتَحَقَّق فِيمَا ذكرتموه من المقدمتين والنتيجة أصلا.
على أَنا نقُول، مَا ذكرتموه من النتيجة بعد المقدمتين، لَا معنى لَهَا، وَإِنَّمَا هِيَ إِعَادَة مُوجب المقدمتين بِعِبَارَة أُخْرَى.
وَبَيَان ذَلِك أَنا إِذا قُلْنَا: كل حَيّ قَادر، وكل قَادر فَاعل فقد صرحنا بِأَن كل حَيّ فَاعل فَلَا معنى لتقدير ذَلِك نتيجة زَائِدَة على المقدمتين.
وَلَو سَاغَ تَقْدِير هَذَا نتيجة وَفَائِدَة جَدِيدَة لتصور من هَذَا الْقَبِيل ضروب مِنْهَا أَن نقُول: إِذا ثَبت أَن كل حَيّ قَادر وكل قَادر فَاعل فنتيجة ذَلِك أَن كل قَادر حَيّ، وكل فَاعل قَادر وكل قَادر حَيّ إِلَى غير ذَلِك من ترديد الْعبارَات.
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن الْقيَاس إِنَّمَا على مَا فِيهِ ضرب من التَّحَرِّي والتآخي وَمَا ذكرتموه من النتيجة مدرك ضَرُورَة، بعد تَقْدِير المقدمتين وثبوتهما.
على أَنا نقُول: لم كنيتم بتخصيص الْقيَاس بِهَاتَيْنِ المقدمتين، ونتيجتهما أولى من تَصْوِير مقدمتين، وَفَائِدَة مستفادة مِنْهُمَا على غير الْوَجْه الَّذِي صورتموه.
وَذَلِكَ نَحْو أَن نقُول: الْمَوْجُود لَا يَخْلُو أَن يكون حَدِيثا أَو قَدِيما فَهَذِهِ مُقَدّمَة ثمَّ نقُول بعْدهَا: وَهَذَا لَيْسَ بقديم. فنعلم من هَاتين القرينتين أَنه حَادث. فَلَيْسَ من قبيل مَا قدروه من قبيل الْقَرَائِن والنتائج، فَهَلا جَازَ تَسْمِيَتهَا أقيسة وَكَذَلِكَ لَو قَالَ قَائِل، لزيد وَعَمْرو عِنْدِي عشرَة، ولزيد مِنْهَا دِرْهَم. فهاتان مقدمتان. ونتيجتهما أَن لعَمْرو تِسْعَة.
وَكَذَلِكَ إِذا قَالَ: فِي يَمِيني أَو يساري دِرْهَم وَلَيْسَ هُوَ فِي يساري. فنتيجتهما أَنه فِي يَمِينه. فسموا ذَلِك أقيسة. وَهَذَا مِمَّا لَا محيص لَهُم عَنهُ.
إِلَّا أَن يستروحوا إِلَى اصطلاحهم ويزعموا أَن هَذَا مَا اصطلحنا عَلَيْهِ بَين أظهرنَا وَلم نرم بِهِ الجري على الْحَقَائِق وَمُوجب الْحُدُود، فيخلون حِينَئِذٍ وَمَا يتواطئون عَلَيْهِ.

.فصل: فِي ذكر معنى الْجمع بَين المعلومين:

فَإِن قَالَ قَائِل. قد ذكرْتُمْ فِي الْحَد الَّذِي ارتضيتم أَنه حمل مَعْلُوم على مَعْلُوم ثمَّ ذكرْتُمْ أَنه بِأَمْر يجمع بَينهمَا . فَمَا معنى الْجمع بَينهمَا؟
قيل لَهُ. هُوَ قَول الْقَائِل فِي نَفسه واعتقاده اجْتِمَاع الْفَرْع وَالْأَصْل فِي إِثْبَات حكم أَو نفي حكم نَفْيه. وَيدخل فِي هَذِه الْجُمْلَة اعْتِقَاده وجوب الْجمع بَينهمَا فِي إِثْبَات حكم أَو فِي نفي حكم. فَيَنْصَرِف الْجمع بَينهمَا إِلَى اعْتِقَاد.
وَالْقَوْل الَّذِي فِي النَّفس - الَّذِي الْعبارَات منبئة عَنهُ - وَقد تسمى الْعبارَات جمعا أَيْضا. ويقوى ذَلِك إِذا سميناها كلَاما حَقِيقَة، فَهَذِهِ جملَة مقنعة فِي حد الْقيَاس.
فَأَما الْكَلَام فِي تَفْصِيله من ذكر فَرعه وَأَصله، وَعلة، أَصله، وَوجه تحريره، ووجوه استنباطه، ومدارك مورده، وإبانة صِحَّته، ومحامل فَسَاده، وَطَرِيق إِثْبَات علته فمما يرد مستقصى بعد ذَلِك إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَإِنَّمَا قدمنَا حد الْقيَاس لتَكون على ضرب من الْخِبْرَة.
إِذا ثَبت الْقيَاس على منكريه.

.القَوْل فِي ذكر اخْتِلَاف النَّاس فِي صِحَة الْقيَاس وَوُجُوب القَوْل بِهِ ورده:

اعْلَم، - أحسن الله إرشادك - أَن مَا أجمع عَلَيْهِ عُلَمَاء الْأَعْصَار السَّابِقَة من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَمن بعدهمْ من جَمَاهِير الْفُقَهَاء والمتكلمين، القَوْل بالأقيسة الشَّرْعِيَّة، وَجَوَاز التَّعَبُّد بهَا عقلا، ووجوبه سمعا.
وَذَهَبت الشِّيعَة خلفهَا وسلفها إِلَى إبْطَال الأقيسة الشَّرْعِيَّة.
وَإِلَيْهِ صَار النظام، وشرذمة من معتزلة بَغْدَاد، الَّذين قائدهم الْبَلْخِي وَذهب من الْفُقَهَاء إِلَى رد الْقيَاس دَاوُد بن عَليّ الْأَصْبَهَانِيّ، والقاساني والنهرواني وَغَيرهم من أتباعهم.
ثمَّ الَّذين قَالُوا برد الْقيَاس افْتَرَقُوا فرْقَتَيْن:
فَذهب بَعضهم إِلَى رد الْقيَاس عقلا، وصاروا إِلَى اسْتِحَالَة وُرُود التَّعَبُّد بِهِ. وَذهب آخَرُونَ إِلَى جَوَاز وُرُود التَّعَبُّد بِهِ عقلا، وَلَكنهُمْ زَعَمُوا أَن الشَّرْع منع من ذَلِك على مَا سنذكر مَا اغتروا بِهِ من ظواهر الْكتاب وَالسّنة، إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَإِلَى هَذَا مَال دَاوُد وأشياعه من الْفُقَهَاء.
وَأما الَّذين صَارُوا إِلَى منع التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ عقلا، من الشِّيعَة والمعتزلة، فقد افْتَرَقُوا فرْقَتَيْن.
فَذهب النظام إِلَى أَن الرب تَعَالَى لم يتعبد بِالْقِيَاسِ، علما مِنْهُ بِأَن لَا صَلَاح فِيهِ للمكلفين وَفِي تكليفهم استفسادهم. وَكَانَ يجوز أَن يَقع فِي الْمَعْلُوم أَن يصلحوا إِذا تعبدوا بِالْقِيَاسِ، وَلَكِن مَا لم يتعبد بِهِ، عرفنَا أَنه أَيقَن فِي الْمَعْلُوم أَن التَّعَبُّد بِهِ مفْسدَة.
وَذهب آخَرُونَ من الْقَائِلين بالأصلح إِلَى أَنا لَا نجوز وُقُوع التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ صلاحاً. ولسنا نقُول: مَا يَقُوله النظام من جَوَاز تَقْدِير وُقُوعه فِي الْمَعْلُوم صلاحاً أصلا. بل نقُول لَا يجوز أَن يَقع التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ صلاحاً أصلا.
وَهَذَا افْتِرَاق عَظِيم بَين المذهبين، فَلَا تحسبنهما شَيْئا وَاحِدًا.
وَنحن الْآن نبدأ بِالرَّدِّ على النظام، ثمَّ ننعطف بِالرَّدِّ على إخوانه.

.مناقشة النظام فِي موقفه من الْقيَاس:

فَنَقُول للنظام: أول مَا نناقشك فِيهِ أصل الصّلاح والإصلاح.
فَمن أصل أهل الْحق أَنه لَا يجب على الله تَعَالَى أَن يتعبد عباده بِمَا فِيهِ مصلحتهم بل لَهُ أَن يعرضهم للعطب والثوي وَله تعريضهم للصلاح واللطف، فَلَا وَاجِب عَلَيْهِ أصلا بل يفعل بعباده مَا يَشَاء.
وَهَذَا من أعظم الْأُصُول فِي التَّعْدِيل والتجوير. وَهُوَ مِمَّا يستقصى فِي الديانَات. وَإِذا صددت الْخُصُوم عَنهُ لم يسْتَمر لَهُم الْمَنْع عَن القَوْل بِأَصْل الصّلاح شُبْهَة فِي رد الْقيَاس، فَإِن كل مَا سيذكرونه، أَو جلها مَبْنِيّ على القَوْل بالصلاح على أصولهم فِي أصولهم فِي الْكَلَام ونسلم لَهُم القَوْل بالصلاح فِي أصل التَّكْلِيف. وَيبْطل مَعَ ذَلِك تعلقهم بالشبه.
فَأَما النظام فَنَقُول لَهُ: قد قلت إِنَّه كَانَ يجوز أَن يَقع فِي الْمَعْلُوم التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ مصلحَة، وَيجوز أَن لَا يَقع كَذَلِك. فَلَمَّا نهى الله تَعَالَى عباده عَن الْقيَاس وَحَملهمْ على التَّمَسُّك بالنصوص استدللنا بذلك على أَن التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ وَقع فِي الْمَعْلُوم مفْسدَة.
فَنَقُول لَهُ: بِمَ تنكر على من يَقُول لَك إِن الله تَعَالَى علم أَنه لَو جمعهم على الِاعْتِصَام بالنصوص وَترك تتبع الْعِلَل استنباطاً وتحرياً واجتهاداً، كَانَ ذَلِك صلاحاً. وَلَو تعبدهم بِالْقِيَاسِ كَانَ ذَلِك صلاحاً أَيْضا.
فَلَمَّا اسْتَوَى وَجه طلب الصّلاح فِي الْقسمَيْنِ فعل الرب أَحدهمَا، فَلم زعمت أَن إِيثَار أَحدهمَا مَعَ استوائهما فِي حكم الصّلاح، يبين لَك اتِّفَاق وُقُوعه مفْسدَة فِي الْمَعْلُوم.
فَإِن قَالَ النظام، إِنَّمَا قلت ذَلِك. لِأَنَّهُ لَا يُنْهِي إِلَّا عَن الْمحرم. وكل مَا كَانَ محرما فَهُوَ قَبِيح لوصف هُوَ فِي نَفسه لعَينه وَقد ثَبت أَنه نهى عَن الْأَخْذ بِالْقِيَاسِ.
فَنَقُول: هَذَا الَّذِي ذكرته خُرُوج عَن مُقْتَضى أصلك. فَإنَّك إِذا قلت أَن التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ مِمَّا لَا يقبح لعَينه، وَيجوز تَقْدِير وُقُوعه مصلحَة فِي الْمَعْلُوم. فَكيف يَسْتَقِيم فِي هَذَا الأَصْل القَوْل بِأَن الْقيَاس والتمسك بِهِ قَبِيح لوصف هُوَ فِي نَفسه لعَينه .
على أَنا نقُول: بِمَ تنكرون على من يزْعم أَنه لما كَانَ الْحمل على النُّصُوص وَالْأَخْذ بموجباتها مصلحَة، وَكَانَ التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ مصلحَة أَيْضا، واستويا فِي اقْتِضَاء الْمصلحَة، وَعلم الرب تَعَالَى أَن التَّخْيِير بَينهمَا مفْسدَة، وَرُبمَا يتَّفق ذَلِك فِي الْمَعْلُوم، فَلَمَّا علم بذلك أَمر بِأَحَدِهِمَا وَنهى عَن الثَّانِي. وَلَو قدر الْأَمر على الضِّدّ لَكَانَ السُّؤَال يتَوَجَّه كَمَا يتَوَجَّه الْآن. فَبَطل من هَذَا الْوَجْه ادِّعَاء النظام كَون التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ مفْسدَة لوُقُوع النَّهْي عَنهُ وَالْأَمر بالتمسك بالنصوص. وَهَذَا مِمَّا لَا محيص عَنهُ على الْوَجْه الَّذِي طردناه.
ثمَّ نقُول: كل مَا ذكرته مَبْنِيّ على أَن النَّهْي عَن الْقيَاس ورد سمعا، وهيهات فَكيف يَسْتَقِيم ذَلِك وسنوضح الْأَدِلَّة السمعية القاطعة التَّعَبُّد بِهِ و نَبْنِي بطلَان تعلقهم بجملة الْأَدِلَّة السمعية.
فَإِن قَالَ قَائِل: لَو كَانَ وَجه الصّلاح فِي الْحمل على النُّصُوص مُسَاوِيا لوجه الصّلاح بالتعبد بِالْقِيَاسِ، لَكَانَ الرب تَعَالَى يُخَيّر بَينهمَا. كَمَا خير فِي كثير من الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة، نَحْو الْكَفَّارَات بِبَعْض الْمنَازل وَغَيرهَا.
قُلْنَا: بِمَ تنكرون على من يزْعم أَن الرب سُبْحَانَهُ علم تَسَاوِي وَجه الصّلاح فِي التَّعَلُّق بالنصوص وَالْقِيَاس، وَعلم من ذَلِك أَنه لَو خير بَينهمَا، لفسد عِنْد ذَلِك المكلفون، وَهَذَا مِمَّا لَا يستبعد وُقُوعه فِي الْمَعْلُوم، وَلَا معنى لكَون الشَّيْء لطفاً، إِلَّا أَن يعلم الرب تَعَالَى أَنه لَو وَقع لتعقبته مفْسدَة، ثمَّ إِن وجد التَّخْيِير فِي مورد من موارد الشَّرِيعَة، فَعدم التَّخْيِير أغلب عَلَيْهَا
فَبَطل من كل وَجه مَذْهَب النظام بطلاناً، لَا خَفَاء بِهِ، فَهَذَا وَجه مغن فِي الْكَلَام عَلَيْهِ.
فَمَا وَجه الْكَلَام على من عداهُ من الْقَائِلين بالصلاح والإصلاح.

.مناقشة الْقَائِلين بالصلاح والإصلاح:

فَمن أصلهم قطع القَوْل بِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يَقع التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ فِي الْمَعْلُوم مصلحَة لَا تجويزاً وَلَا تَحْقِيقا. وَإِن التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ قَبِيح لعَينه.
فَيُقَال، لم قُلْتُمْ ذَلِك، وَمَا دليلكم عَلَيْهِ؟
وَنحن الْآن نذْكر كل شُبْهَة لَهُم، ونستقصي الْجَواب إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
فمما تمسكوا بِهِ أَن قَالُوا: الأقيسة السمعية الَّتِي فِيهَا تنازعنا لَا تُفْضِي إِلَى الْعلم وَالْقطع أصلا. وَلَيْسَت كالأدلة الْعَقْلِيَّة فِي إفضائها إِلَى المدلولات، وَلَيْسَت كالنصوص الثَّابِتَة قطعا، فَإِذا كَانَت لَا تُؤدِّي إِلَى الْمَعْلُوم قطعا، بل يقارنها الْجَهْل وَعدم الْقطع وَالْعلم بالمقاصد. وَمَا يقارنه الْجَهْل فَهُوَ قَبِيح فِي عينه.
فَيُقَال لَهُم: بِمَ تنكرون على من يزْعم أَولا: أَن الأقيسة السمعية تتَعَلَّق بمقتضياتها قطعا. وَذَلِكَ أَنا نقُول: قد ثَبت بالأدلة القاطعة نصبها إمارات على الْأَحْكَام فَكَأَن الرب تَعَالَى خَاطب عباده صَرِيحًا، وَقَالَ لَهُم مهما حرمت عَلَيْكُم التَّفَاضُل فِي الْأَشْيَاء الْأَرْبَعَة الربوية، فاعلموا أَنكُمْ مخاطبون بِأَن تَطْلُبُوا لذَلِك عِلّة. هِيَ صفة من صِفَات الْأَعْيَان الْمَنْصُوص عَلَيْهَا. واحرصوا فِي طلبَهَا - بالطرق الَّتِي سَوف نذكرها فِي وصف الاستنباط - حَتَّى إِذا غلب على ظنكم بعد التَّحَرِّي وَالِاجْتِهَاد أَن وَصفا من الْأَوْصَاف هُوَ الْعلَّة، فَاقْطَعُوا عِنْد ذَلِك بِأَن حكمي عَلَيْكُم مَا غلب على ظنكم، فَإِن غَلَبَة ظنونكم فِي ذَلِك آيَة تقطعون عِنْدهَا بِوُجُوب الْعَمَل، بِمُوجب اجتهادكم، فَيُؤَدِّي التَّمَسُّك بالأقيسة إِلَى الْمَقْصُود قطعا كَمَا سقناه وطردناه. ويتنزل ذَلِك منزلَة تَكْلِيفه تَعَالَى أيانا الحكم بإبرام الْقَضَاء عِنْد شَهَادَة اثْنَيْنِ ظاهرهما الْعَدَالَة، وَإِن كُنَّا لَا نقطع بعدالتها. وَلَو قَطعنَا بهَا مثلا. لم نقطع بعصمتها، وَمَعَ ذَلِك يجب علينا الحكم.
فَكَأَن الرب تَعَالَى قَالَ: شَهَادَة الشَّاهِدين الَّذين يغلب على ظنكم عدالتهما وصدقهما آيَة تقطعون عِنْدهَا بِأَن حكمي عَلَيْكُم إبرام الْقَضَاء بهَا، فَهَذَا سَبِيل الأقيسة.
فَإِن قَالُوا: فَإِذا غلب على ظن مُجْتَهد أَن الطّعْم هُوَ الْعلَّة فِي تَحْرِيم الرِّبَا فِي الْأَشْيَاء الْأَرْبَعَة، واعتقد آخَرُونَ أَن الْكَيْل هُوَ الْعلَّة، وتحققت الْغَلَبَة على الظنون فِي كل وَاحِد من الْجَانِبَيْنِ فَكيف يتَحَقَّق مَعَ ذَلِك الْعلم بِثُبُوت الْحكمَيْنِ المتضادين؟
قُلْنَا: هَذَا الَّذِي ألزمتمونا عين أصلنَا، إِذا قُلْنَا بتصويب الْمُجْتَهدين. وَذَلِكَ أَنا نقُول: حكم الله تَعَالَى على كل وَاحِد مِنْهُمَا اتِّبَاع مُوجب اجْتِهَاده، وَلَيْسَ فِيهِ تنَاقض، على مَا سنشرحه فِي تصويب الْمُجْتَهدين. إِن شَاءَ الله تَعَالَى. فَبَطل مَا ادعوهُ من الْجَهَالَة.
وَهَذَا فصل، إِذا طردته بَطل استرواحهم إِلَى كَون الأقيسة السمعية مقترنة بِالْجَهْلِ وَتبين اقترانها بِالْعلمِ.
فَإِن قيل: فَمن أَيْن لكم أَن الرب تَعَالَى نصب غلبات الظنون أَمَارَات لأحكامه قطعا؟
قُلْنَا: سنقيم على ذَلِك وَاضح الْأَدِلَّة بعد أَن نفرغ عَن إبْطَال كل شُبْهَة لكم.

.شُبْهَة أُخْرَى مَبْنِيَّة على القَوْل بالصلاح:

فَإِن قَالُوا: لَو كَانَ التَّعَبُّد بالأقيسة السمعية صلاحاً، لعقل ذَلِك. وَتحقّق الْعلم بِوَجْه الْمصلحَة فِيهِ. وَنحن نعلم أَن كَون الشَّيْء مطعوماً أَو كَون الْخمر مشتدة عِلّة على التَّحْرِيم مِمَّا لَا يعقل وَجهه فِي الْمصلحَة واللطف.
فَلَو قَالَ قَائِل: فَمَا وَجه نصب الطّعْم عِلّة مصلحَة يجوز تَقْدِير وصف آخر من الْأَوْصَاف عِلّة.
قُلْنَا: هَذَا الْكَلَام مِمَّن لم يحط علما بِحَقِيقَة الصّلاح والإصلاح على أصُول الْمُعْتَزلَة.
وَهَا نَحن الْآن نكشف عَن حَقِيقَة مَا قَالُوهُ فِي ذَلِك. ونقول لَيْسَ الْمَعْنى بِكَوْن الشَّيْء مصلحَة ولطفاً، أَنه فِي عينه يُوجب الصّلاح، كَمَا توجب الْعلَّة معلولها لذاتها ونفسها وَلِهَذَا من الْمَعْنى قَالُوا: أَن الصّلاح واللطف لَا يتخصصان بِجِنْس من أَجنَاس الْأفعال، وَلَكِن كلما علم الرب أَنه لَو أثْبته، لَا تفق عِنْده الصّلاح للمكلفين، فَهُوَ مصلحَة ثمَّ يخْتَلف وُقُوعه للمعلوم. فَرُبمَا يَقع فِي الْمَعْلُوم اتِّفَاقًا كَون الشَّيْء مصلحَة فِي حق زيد مَعَ أَنه مفْسدَة بِعَيْنِه فِي حق عَمْرو.
وَهَذَا كَمَا أَن الرب تَعَالَى قد علم أَنه لَو أفقر شخصا لكفر، وَلَو أغناه لشكر وَعلم أَنه لَو بسط الرزق لغيره لبغى فِي الأَرْض. فالصلاح فِي حق أَحدهمَا الإغناء وَفِي حق الآخر الافقار. فمقصدنا من ذَلِك أَن نبين لَك أَنه لَيْسَ من شَرط كَون الشَّيْء مصلحَة، أَن يَقع فِي ذَاته على وَجه يَقْتَضِي الصّلاح، ويوجبه لجنسه وذاته اقْتِضَاء الْعلَّة معلولها، فَإِذا وضح ذَلِك بَطل مَا عولوا عَلَيْهِ بطلاناً ظَاهرا.
على أَنا نقُول لهَؤُلَاء: فَلَو قَالَ لكم قَائِل: فبينوا وَجه الْمصلحَة فِي الصَّلَوَات الْخمس مَعَ تباينها فِي الْأَوْقَات وأعداد الرَّكْعَات وَغير ذَلِك من الصِّفَات، فَلَا يَجدونَ إِظْهَار وَجه الْمصلحَة - يتَوَصَّل إِلَيْهَا عقلا، كَمَا يتَوَصَّل إِلَى الْوَجْه الَّذِي يدل مِنْهُ الدَّلِيل الْعقلِيّ.
فَإِن قَالُوا: لكل مَا ذكرتموه وَجه فِي الْمَعْقُول، وَلَكِن لَا يتَوَصَّل إِلَيْهِ.
قُلْنَا: فَبِمَ تنكرون على من يلزمكم مثل ذَلِك، وَيَقُول فِيمَا ألزمتمونا فِي الْقيَاس وَجه من الْمصلحَة، ذهلنا عَنهُ، واستأثر الرب تَعَالَى بِعِلْمِهِ.
فَإِن قَالُوا: لَيْسَ الْمَعْنى بِكَوْن الصَّلَوَات مصلحَة وُقُوعهَا على صِفَات مَخْصُوصَة فِي الْعقل، وَلَكِن الْمَعْنى بِكَوْنِهَا مصلحَة اتِّفَاق وُقُوعهَا كَذَلِك فِي الْمَعْلُوم، وَكَانَ يجوز أَن يَقع فِي الْمَعْلُوم خلاف ذَلِك. فَإِذا صَرَّحُوا بذلك وَهُوَ حَقِيقَة أصلهم، فينعكس عَلَيْهِم مثل ذَلِك فِي موارد الأقيسة.

.شُبْهَة أُخْرَى لَهُم:

فَإِن قَالُوا: من شَرط الْأَدِلَّة أَن تتَعَلَّق بمدلولاتها على وَجه كَمَا أَن الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة، لما كَانَت أَدِلَّة على مدلولاتها، عقل مِنْهَا وَجه مَعْلُوم فِي التَّعَلُّق بالمدلول، وَهَذَا نَحْو دلَالَة الْفِعْل على الْفَاعِل والإتقان على الْعَالم والتخصيص على المريد. ولسنا نعقل وَجها فِي الطّعْم يَقْتَضِي تَحْرِيم التَّفَاضُل، كَمَا عقلنا مثل ذَلِك فِي الْأَدِلَّة الْمُتَعَلّقَة بمدلولاتها.
فَنَقُول: هَذَا الَّذِي ذكرتموه ينعكس عَلَيْكُم أَولا بالمنصوصات الَّتِي علق الحكم فِيهَا بأسماء الألقاب. وَذَلِكَ أَن قَائِلا لَو قَالَ: لَيْسَ يتَحَقَّق وَجه من الصّلاح فِيمَا ورد مَنْصُوصا فِي الشَّرَائِع، كَمَا يتَحَقَّق ذَلِك فِي الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة، فَمَا وَجه تَعْلِيق الْأَحْكَام على الْأَسْمَاء فِي موارد النُّصُوص؟
فَإِن انفصلوا عَن ذَلِك قَالُوا: مَا جعلت الْأَسْمَاء عللاً فِي الْأَحْكَام، مُتَعَلقَة بهَا تعلق الدَّلِيل بالمدلول وَالْعلَّة بالمعلول.
قُلْنَا: وَكَذَلِكَ قَوْلنَا فِي الْعِلَل السمعية. فَإِنَّهَا نصبت أَمَارَات على الْأَحْكَام من غير أَن يكون لَهَا وَجه فِي التَّعَلُّق بهَا. ودلت على نصبها أَدِلَّة قَاطِعَة، كَمَا دلّ على التَّمَسُّك بالنصوص أَدِلَّة قَاطِعَة، وَإِذا كَانَ سَبِيلهَا سَبِيل الأمارات المنصوبة فَلَا تطلب فِي الأمارات وُجُوه التَّعَلُّق كَمَا تطلب فِي الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة.
وَرُبمَا يطردون مَا ذَكرُوهُ من أوجه، أَحدهَا أَن يَقُولُوا: لَو كَانَت الْعِلَل السمعية مقتضيات للْأَحْكَام لاقتضتها وُرُود الشَّرَائِع كَمَا تَقْتَضِي الْعلَّة الْعَقْلِيَّة معلولها.
وَوجه الْخلاف فِي ذَلِك مَا قدمْنَاهُ آنِفا، من أَن الْعِلَل السمعية، لَيست بأدلة لأنفسها، وَإِنَّمَا نصبت أَمَارَات على الْأَحْكَام وَمَا كَانَ سَبيله سَبِيل الأمارة المنصوبة فتوقف فِي كَونهَا أَمارَة - على مَا تقدم - لواضع لَهَا وَنصب عَلَيْهَا. وَهَذَا وَاضح لَا خَفَاء بِهِ.